ملحمة تكوين البطل تبدأ من العشوائيات

في عام ٢٠٠٩ خرج علينا فيلم مفاجأة تحت عنوان “District 9″ يحكي قصة عبقرية عن كائنات فضائية تلجأ لكوكب الأرض و يتم تقبلها لتعيش بيننا و لكن هذا التقبل الرسمي لا يتوغل في قلوب عامة الشعب الجنوب إفريقي، حيث تدور الأحداث، و تبدأ معاملتهم بشكل سيء حتى تصل لمرحلة إستعبادهم و تنطلق من هذه النقطة مغامرة بطولية ساحرة. “District 9″ كان إعلان عن مولد مخرج هام جداً إسمه نيل بلومكام لا يزيد عمره عن ٣٠ عاماً في ذلك الوقت يتميز برؤية إخراجية يتم فيها المزج بين المؤثرات الخاصة و الواقع الملموس بشكل غير مسبوق. “District 9″ لفت الأنظار الهوليودية للمخرج الواعد و تطلب الأمر ٤ سنوات كاملة حتى يقدم نيل فيلمه الروائي الثاني “Elysium”.

“Elysium” هي إسم الجنة التي يدفن فيها القديسين بعد الموت في الأساطير اليونانية القديمة، و في سياق الفيلم هي محطة فضائية عملاقة يتم بناءها في المستقبل لتكون مسكن للأغنياء و المرفهين الذين يتركون الأرض بتلوثها و إجرامها و فسادها للفقراء و الضعفاء تحت حكم رجال آليين يطبقون القوانين الصارمة بكل قسوة حتى يتمكن الأكثر حظاً من التنعم في جنة Elysium. للأسف شكل الأرض كما يصوره الفيلم في أقسى درجات فسادها و تلوثها لا يختلف كثيراً عن شكل العشوائيات في مصر في يومنا هذا .. بل أكاد أقول أن عشوائيات مصر و أحياءها الفقيرة تحمل من الخيال ما لم يتمكن الفيلم من تصوره.

بطل أحداث الفيلم هو ماكس، الذي يقوم بدوره النجم الكبير مات ديمون، و يتم تقديمه لنا منذ أن كان طفلاً غير قادر على إستيعاب وضعه المجتمعي الذي يحتم عليه حياة المعاناة و المرض و الحرمان بدون أي ذنب بينما طفل آخر يتمتع بكل رفاهيات الحياة بدون أي فضل. ماكس تجمعه علاقة صداقة قوية مع طفلة أخرى تدعى فري. يكبران ماكس و فري معاً حتى تفرقهم الحياة و تقفذ أحداث الفيلم للعام ٢١٥٤حيث نرى ماكس مستسلماً لوضعه كعامل ضعيف مجبر على تحمل الإهانات و أحوال العمل المهينة التي تعرضه لحادث يكتب نهاية حتمية لحياته خلال ٥ أيام إذا لم يتلقى علاج غير موجود إلا في Elysium الذي يحظر تماماً وصول سكان الأرض له و هنا تبدأ المغامرة المركبة المعقدة التي تفاجئك في كل لحظة. كل من شاهد “District 9″ يعلم تماماً ما أعنيه.

إقرأ أيضاً: Gravity … فيلم لا يمكن مشاهدته مرة واحدة فقط

نيل بلوكام الذي أخرج الفيلم و كتب قصته كذلك يبدع مرة أخرى في توظيف تكنولوجيا مبهرة، و بالتحديد في الأسلحة المستقبلية المتطورة، في واقع قذر و غير منمق فتبدو حقيقية إلى حد كبير مما يزيد من تفاعلك مع القصة و يقلل من وضع المشاهد الطبيعي كمحلل و قاضي لأفلام الخيال العلمي. و لكن على الجانب الآخر هو يقع في فخ الأفلام الأمريكية الأشهر و هو شرح كل نقطة تحول في الفيلم بشكل متكرر و ساذج حتى يضمن قدرة المشاهد علي الفهم و هو أمر أنا لا أحبه شخصياً. لا أستطيع أن أنكر أن الأمر كان كذلك أيضاً في “District 9″ و لكن الفيلم نفسه كان يأخذ شكل الفيلم الوثائقي الذي يسجل أحداث حدثت بالفعل فجاء الشرح و التكرار مبرر و مقبول.

أما على صعيد القصة فأكثر ما أعجبني هو تحول شخصية ماكس من الغضب و الحنق و الأنانية الشديدة، إلى البطولة و الفروسية المطلقة بتسلسل صحي و ملموس. كما أعجبتني جداً إسقاطات الفيلم على واقع الحياة التي نعيشها الآن مثل تنكيل العسكريون بالدبلوماسيين في أوقات الأزمات على الجانب السياسي و رغبة الأغنياء في عزل الفقراء عن حياتهم بكل الأشكال الممكنة على الجانب الإجتماعي. كما أن الفيلم يضع أمام وجوهنا رسالة واضحة هي أن الحكم الحقيقي هو في يد من يملك السلاح، حتى و إن كان إنسان آلي بدون أي قدرة على التفكير.

هذه هي مدرسة و مرجعية نيل بلومكام و هو مخلص لها حتى هذه اللحظة. أما ما لم أجده مقبولاً فهو القدر الكبير من الصدف التي تتحكم في أحداث الفيلم، مثل أن يتصادف أن رجل الأعمال الغني الذي يقوم ماكس باختطافه يحمل في عقله السر الذي من شأنه تغيير شكل الحياة على الأرض و على Elysium في تلك اللحظة بالذات! كما لم يعجبني التطور المهول الذي وصلت له الحياة على Elysium حتى أصبح متاحاً في كل بيت جهاز للعلاج من أي مرض حتى لو كان السرطان! طب ما لما انتو حلوين كدة ما تنزلوا تصلحوا الأرض! أو قد يكون أنانينة سكان Elysium أمر مقصود … يمكن!

إقرأ أيضاً: العلاقة بين ستيف جوبز و دييجو مارادونا في فيلم jOBS

مات ديمون جيد جداً في دور ماكس و الشخصية نفسها مكتوبة بعناية و يبدو أنه أعد لها جيداً حتى فيما يتعلق بمتطلباتها الجسدية فبدا نحيفاً و مفتول العضلات مقارنةً بأفلامه الأخيرة مثل The Adjustment Bureau و We Bought a Zoo حيث كان يحمل وزناً زائداً و بدا غير مهتم بذلك.

أما عن باقي أبطال الفيلم فهناك جودي فوستر في دور وزير الدفاع الشريرة التي تحتقر سكان الأرض و تحتقر سياسيي Elysium و تخطط لفرض تحكمها على كل شيء. تجسيد جودي فوستر للشخصية جاء سطحي و لم تنجح في ترك أي ذكرى مع المشاهد. هنالك أيضاً أليس براجا في دور فري و ويليام فيشتنر في دور رجل الأعمال الذي يقوم ماكس باختطافه.

و لكن أكثر شخصيات الفيلم إثارة للإهتمام هو الجندي المرتزق كروجر الذي تستعين به وزيرة الدفاع ليقوم بالإيقاع بماكس و منعه من الوصول لElysium. كروجر يقوم بدوره الممثل الجنوب أفريقي شارلتو كوبلي و هو من قام ببطولة فيلم District 9 و قدم أداءً فريداً كشخص طيب مغلوب على أمره. بينما هنا فهو شخصية شريرة غير سوية. و في الهيئة الخارجية فهو يشبه تشاك نوريس إلى حد كبير. الشيء الوحيد المزعج بخصوص كوبلي هو لكنته الجنوب أفريقية الثقيلة و التي ستحصره دائماً في أفلام ذات طابع دولي أو خيالي، رغم نجاحه في التحرر منها في أوقات كثيرة في فيلم The A-Team. لشارلتو كوبلي فيلم هام في الطريق هو Oldboy، لنرى كيف سيتم تقديمه.

Elysium هو فيلم جيد جداً و فيه رؤية جديدة تماماً لأفلام الخيال العلمي و هو أمر يشكر عليه نيل بلومكام و لكني أخشى على المخرج الشاب أن ينجرف في تيار المعادلة الأمريكية للأفلام فيجف سحره كما حدث مع الهندي الواعد إم نايت شيامالان الذي بدأ متألقاً في The Sixth Sense ثم بدأ في الإنحدار حتى أصبح مجرد كائن متنقل من فشل لفشل أكبر.

لنيل بلوكام فيلم جديد إسمه Chappie تفاصيله مجهولة حتى الآن و لكنه سيكون من بطولة هيو جاكمان و ديف باتل و شارلتو كوبلي مرة أخرى. موعد عرض الفيلم الجديد سيكون في مارس ٢٠١٥ .. لننتظر و نرى خطوة بلومكام الجديدة و إلى أين ستقوده مغامرته السينمائية الفريدة.

إقرأ أيضاً: بالفيديو | The Grudge Match و رحلات دي نيرو و ستالون إلى الماضي لاستعادة و إعتصار الأمجاد

التعليقات و المناقشة

التعليق